رسائل متقاطعة في لحظة تفاوضية دقيقة
د. علي حمود

خبير اقتصادي

Wednesday, 10-Dec-2025 07:50

في لحظة سياسية بالغة الهشاشة، جاء تعيين السفير السابق سيمون كرم رئيساً للوفد اللبناني بموافقة الرؤساء الثلاثة، ليعكس محاولة لبنانية لإعادة ترتيب آليات التفاوض وتثبيت القنوات الرسمية، في ظلّ توتر متصاعد على الحدود الجنوبية.

خطوة التعيين التي تزامنت مع انعقاد لجنة «الميكانيزم» في الناقورة، بدت كأنّها محاولة لبنانية لضبط الإيقاع الديبلوماسي، فيما كانت إسرائيل تستكمل عملياتها العسكرية على الأرض، في إشارة واضحة إلى رغبتها في تكريس قواعد اشتباك جديدة قبل أي مسار تفاوضي محتمل.

 

وجاء التصعيد الإسرائيلي بعد ساعات فقط من بدء أعمال اللجنة، بما يحمله ذلك من رسائل مفادها أنّ تل أبيب لا تبدو معنية بتهدئة مستدامة، وأنّ حكومة بنيامين نتنياهو تُفضِّل استخدام التوتر ورقةً لتعزيز موقعها التفاوضي، أو للتخفيف من الضغوط الداخلية التي تواجهها.

 

وقد شهدت بيروت في الأيام الأخيرة وصول وفود أممية ودولية مكثّفة، أبرزها وفد من مجلس الأمن، بالإضافة إلى مبعوثين غربيِّين من الصف الأول، بينهم مورغان أورتاغوس والمبعوث الفرنسي جان إيف لودريان، الذي وصل في ظل تقدّم لافت في وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية. هذا الحراك، وإن حمل طابع الدعم السياسي، يعكس في جوهره جهوداً دولية لاحتواء التدهور على الحدود الجنوبية ومنع انزلاقه إلى مواجهة شاملة.

 

أمّا لبنان، فيُقدِّم نفسه كدولة متمسّكة بالقرار 1701 وبقنوات الأمم المتحدة، مؤكّداً أنّ أي بحث في الترتيبات الحدودية يجب أن يبقى تحت المظلّة الأممية. لكنّ واقع الميدان الذي تفرضه إسرائيل، يصطدم بثبات الموقف اللبناني، في ظل طموحات نتنياهو الداخلية والخارجية، ومساعيه لاستثمار التصعيد كورقة ضغط على واشنطن والقاهرة وباريس.

 

تقديرات ديبلوماسية في بيروت تشير إلى أنّ نتنياهو يسعى إلى تفادي أي تسوية قد تُلزمه بتنازلات تُضعف موقعه داخل إسرائيل. لذلك يعتمد سياسة «القضم التدريجي»، عبر اعتداءات متفرّقة تهدف إلى تعديل ميزان الردع وإظهار سيطرة الجيش الإسرائيلي على إيقاع الجبهة، مع محاولة الحصول على غطاء - أو غضّ نظر - من الإدارة الأميركية.

 

وعلى رغم من أنّ الرسائل الأميركية الأخيرة حملت تحذيرات من توسّع الحرب، فإنّها لم تصل بعد إلى مستوى الضغط الكفيل بكبح التصعيد. أمّا القاهرة، فترى أنّ أي انفجار في الجنوب سيُقوِّض جهودها في تثبيت التهدئة في غزة، ويزيد المشهد الإقليمي تعقيداً. وفي المقابل، تتحرّك باريس، عبر لودريان تحديداً، لمحاولة حماية ما تبقّى من تفاهمات الناقورة، والدفع نحو مسار تفاوضي أوسع يشمل الحدود البرية والملفات التقنية المعلّقة.

 

وعلى وقع هذه التطوّرات، يبدو أنّ بيروت اختارت التمسّك بالديبلوماسية كخيار واقعي وحيد، على رغم من محدودية قدرتها على التأثير الميداني. ويأتي تعيين كرم في إطار إعادة تنظيم القنوات الرسمية، وتأكيد حاجة لبنان إلى شريك موحّد في آليات التفاوض، لا ساحة مفتوحة للتجاذبات.

 

لكنّ استمرار الاعتداءات الإسرائيلية يضع الحكومة اللبنانية أمام أسئلة حسّاسة: كيف يمكن الحفاظ على خطاب ديبلوماسي متماسك مع استمرار سقوط المدنيِّين واستنزاف المناطق الحدودية؟ وكيف يمكن للدولة أن توازن بين التمسّك بالآليات الأممية والاستعداد لسيناريوهات عسكرية قد تُفرض عليها؟

 

خلاصة المشهد، يقف لبنان اليوم عند مفترق دقيق؛ فالديبلوماسية تُستخدم كسدّ أخير أمام الانزلاق نحو مواجهة واسعة، فيما تعمل الاعتداءات الإسرائيلية على تقويض هذا السدّ تدريجاً.

 

وبين رسائل واشنطن والقاهرة وباريس من جهة، وحسابات نتنياهو من جهة أخرى، تبقى الناقورة خشبة النجاة الوحيدة المتاحة، لبلد يحاول تفادي حرب لا يريدها... ولا يستطيع تحمُّل كلفتها.

الأكثر قراءة